الأحد، 13 نوفمبر 2011

إلى أي مدى نجحت سياسة "أنظر شرقا" تربويا


غالبا ما يبحث النّاجي من قيود الإحتلال ، الفارّ من سطوة الإستعباد و السّائر خلال الغابات الكثيفة عن دليل يرشده أو نموذج أعلى يقفو خطاه حتى يبلغ أشده و يقدر على خوض غمار الحياة و بلوغ مصاف الأقوياء. كذلك  فعلت ماليزيا البلد الفتيّ الطّموح الخارج من قبضة الإستعمار البريطاني سنة 1957. بعد استقلالها مباشرة قرّرت ماليزيا أن تبدأ مسيرة التطور و التغيير على شتى الأصعدة و المجالات و اتّفق الرّئيس و المرؤوس  على اعتلاء عرش التقدم بحلول عام 2020.
قال رئيس الوزراء محمّد مهاتير كلمته الخالدة " Boleh " (أستطيع) على خطى اليابانيّين الّذين قالوها من قبله وهم منهزمون و محبطون من الهلاك الّذي لحق بهم في الحرب العالمية الثانية، وتبنّى سياسة النّظر شرقا، والتي تعني الاستفادة من نموذج الدّول الشّرقية من أمثال كوريا و اليابان في التّنمية و التطور.

بعد سنوات من هذا الإختيار الشّجاع وبعد تطبيق هذه السّياسة على شتّى المستويات قرر الماليزيون أن يقيّموا مدى نجاحها كلّ من زاوية نظره فمنهم من استبشر و منهم من استنكر. أما عن إحدى أكبر الأساتدة في كلّية التربية  بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا فقد بذلت من جهدها ووقتها القدر الكبير في مراجعة هذه السياسة
و استنتجت أخيرا أنّ ماليزيا لم تنجح في الإستفادة من التجربة اليابانية في التربية نظرا لتركيزها على الإقتصاد و ماحوله من الجوانب المادية و إغفالها لجانب مهمّ و قاعديّ هو: القيم
و لكي لا تبقى البروفيسور روسناني حبيسة دائرة الإنتقاد و البكاء على الماضي دفعتها إرادتها إلى زيارة ذلك الأرخبيل و إعادة التعمق في الفكر التربوي هناك بتركيز أكبر على القيم و الأخلاق لأنّهما دعامتا التربية و أسّيها.
إذا أردت أن تشتري بذرة و تزرعها  فعليك أن تتحقق من أمرين اثنين: من أين جاءت؟ و أين ستزرع؟
هذه هي الفكرة التي بدأت بها محاضرة: أين نحن من سياسة النّظر شرقا في مجال التربية؟ الّتي ألقتها البروفيسور روسناني هاشم يوم 21\10\2011 في كلية التربية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.
بعد أن بينت كيف أنّ ماليزيا لم تنجح في استيراد التجربة التربوية اليابانية (كما تقدم في سابق السطور) أخذت تعرض بعضا مما شاهدته بأم عينيها في المدارس اليابانية، فركّزت على جوانب منها: القيم و كيفية ترسيخها و العلاقة بين المدرسة والبيت.


القيم:
يتميز الشّعب الياباني عن غيره من شعوب العالم و خاصة الغربية منها بأنه نهض على أساس من احترام القيم و ربطها بكل أنشطة الحياة، و من جملة تلك القيم:
1-   الحياء:
ممّا لاحظته الأستاذة في المدارس اليابانيّة أن التلاميذ يأخذون كل الحذر من الوقوع في أخطاء و يتناصحون فيما بينهم ليحافظوا دوما على سعادة الناس و عدم تسبيب العناء لهم. و في حالة السقوط في شراك الخطأ يحسّ التلميذ بذنب كبير يؤنّب ضميره و يجعله موضع إشارة الأصابع ، لذلك تجده مستحيا و مسارعا إلى طلب العفو ممّن أزعجه، ناطقا بعبارات الإستسماح و منتظرا العفو أمام الجماعة.
2-   الطاعة:
التلميذ الياباني طيّع جدا لمعلّمه و قائد فريقه فهو يرى أن هذه المدرسة مقرّ عمله ( اقتداءا بأبيه) و يرى أنّ عليه أن يبذل كلّ ما بوسعه لتبقى هذه المدرسة محافظة على مستواها، لذلك تجد الياباني طائعا لسيّده و فخورا لذلك لأنّه يرى أنّ العصيان بداية السّقوط.
مع أنّ هذا قد ينقص من ملكة النقد و إعطاء البدائل إلاّ أنّ علينا ألاّ ننسى أنّ التلميذ الياباني يعطى الوقت الكافي للنّقاش قبل اتّخاذ القرار و أنّ المعلّم  و السيّد الياباني قدوة يمكن الثّقة فيها دون خوف من العواقب .
3-   الجماعة:
في مؤسّساتهم يقسّم التلاميذ أنفسهم إلى فرق صغيرة يتعاون أعضاؤها في النّشاطات المدرسية من حلّ للتّمارين و تفكيك للمسائل الصّعبة  و أنشطة رياضية و غيرها، و من الفوائد الّتي جنتها المدرسة اليابانية من وراء نظام الفرق أنّها لم تعد بحاجة إلى عمّال نظافة أو عمّال مطاعم، فالتّلاميذ كلّ في فريقه يتعاونون في تنظيف المدرسة بما في ذلك الفناء و الأروقة و حتّى المراحيض ( من قال أنّ أبناء الدول المتطوّرة متكبرون و لا يقومون بالأعمال الّتي نراها وضيعة: تلك هي قوة الجماعة) و يعلّم التلاميذ الكبار زملائهم الصّغار في  إنجاز تلك الواجبات الجماعية دون حاجة إلى هدر جهد إضافي من المعلّم أو المسؤولين. إضافة إلى ذلك، تتناوب فرق التّلاميذ على تقديم الطّعام لزملائهم و جمع الأواني و تنظيف الطّاولات في نظام و سرعة و تفان يفوت تفاني العامل الكبير و ذلك لسبب واحد هو: أنّهم جماعة و هو فرد لوحده.
بعد هذا العرض لبعض أبرز القيم الّتي يحملها التلميذ الياباني نجد سؤالا يطرح نفسه: كيف أمكن لهم إكساب أبنائهم ذلك؟
كيف ترسّخ القيم؟
1-   مبدأ إخشوشنوا (التحمّل):
يؤمن اليابانيون بأنّ على أبنائهم أن يتربّوا على التحمّل و الصّبر لأنّ من لم يذق طعم التعب و التّضحية لا يقدّر حق النعمة الّتي أعطيها فيضيّعها و يكفرها و هو لا يشعر. لذلك يبرمج الاباء و المربّون أنشطة شاقّة في اخر الأسبوع مثل الخروج إلى الغابة و تنظيف السّاحات العامّة لمدّة طويلة من اليوم تحت أشعّة الشّمس الحارقة صيفا أو برودة الثّلج القارصة شتاءا.
2-   مبدأ الفهم المنطقي:
من فوائد نظام الفرق أنّ التّلميذ  يكتسب مهارتي الإتّصال و النقد بالحوار و النّقاش مع أقرانه و كذا معلّميه، و من الملفت للنّظر خلال عرض البروفيسور روسناني أنّ المعلّمين يمضون أوقاتا طويلة، في بعض الأحيان، لإقناع بعض التّلاميذ بفكرة أو قيمة مستعملين شتّى الأساليب البيداغوجية وغير مراقبين لسير البرنامج المدرسي أو متخوّفين من زيارة المفتش: أهم شيء عندهم هو أن يستوعب التلميذ الفكرة و توافق منطقه حتّى يكون التّطبيق سويّا و المخرجات سليمة.
و من الفريد في الطّرق التّي ينشر بها اليابانيّون قيمهم هوتبنّيهم لما نسمّيه:
3-   مبدأ الولاية و البراءة:
 حيث أنّ أعضاء الفريق يشجّعون و يضمّون و يهنّئون كلّ من يقوم بإنجاز أو بحلّ تمرين و بالعكس يتبرّؤون, و يهجرون كلّ من يؤذي زملاءه أو يفسد متاع المدرسة أو لا يحلّ تمارينه حتّى يندم ويتوب و يصرّح بأنّه آسف و يتعهّد باتّباع نظام المدرسة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا المبدأ لم يكن ليقوم على أرض الواقع لولا اجتماع عوامل أخرى حوله من قدوة و معرفة لقدر الجماعة و غيرها من المبادىء الّتي لا ترى النّور إلّا و هي قاطبة.
هذه هي بعض القيم اللتي ينشأ عليها أبناء اليابان و بعض الطّرق لترسيخ تلك القيم, لكن لا يمكن للمدرسة أن تعمل بمفردها للوصول إلى ذلك المستوى إلاّ إن تعاونت مع أهمّ خلية في المجتمع و هي الأسرة.
المدرسة و البيت هناك في اليابان:
 ممّا تستنتجه و تلاحظه و أنت تسمع للمحاضرة هو ذلك الحصر و التركيز للعملية التربوية في شقّين أساسيين هما البيت و المدرسة، فالأوّل يتكفّل بالجانب العاطفي و العلاقات الإجتماعية (مع ضعفها) و الثاني يضمّ الجوانب المدرسية والثقافية والرياضية و اللاّصفّية عموما. بهذا الحصر يصبح القادة و المفكّرون و العائلة التّربوية  للبلد قادرون على نشر أفكارهم بسهولة بعيدا عن المدخلات العشوائية المفسدة في الغالب كأخطار الشوارع و الآفات الإجتماعية و التّلفاز و رفقاء السّوء.
تعتبر الأمّ اليابانية ركيزة أساسية في رفع المستوى التّربوي فهي تمكث في بيتها و تترك العمل منذ ميلاد أول ابن لها و تفعل ذلك ليس لأنّها قرأت آية ( وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) من القرآن بل لأنّها الوحيدة التي عليها أن تحرص على تعليم ابنها حيث أنّ الزّوج يقضي أغلب اليوم في عمله ثمّ ينتقل آخر المساء إلى المقهى أو الملهى ليخفّف من ضغط العمل عليه و في اللّيل يدخل البيت مرهقا لا يبحث إلاّ عن فراشه و هكذا الحال طوال السّنة.
ومع كثرة واجبات التّلميذ و ضرورة إنجازها خوفا من البراءة المدرسية تجد الأمّ نفسها مضطرّة للبقاء في البيت واقفة مع إبنها حتّى ينجح و لا يفشل لأنّ الفشل في اليابان ذنب عظيم.
هذه هي المدرسة اليابانية كما وصفتها الأستادة روسناني و يمكن في ختام هذا المقال عرض بعض العبر المستفادة من المحاضرة:
1-   اليابان دولة نجحت بأسباب عدّة من أبرزها التّركيز على القيم و أخلاق الجماعة، و بهذا تكون قد أثبتت للغرب أنّ الدولة يمكن لها أن تنهض بجمعها بين القيم و المادّيات.
2-   استطاع اليابانيون من خلال تربيتهم إسقاط و تبسيط مفاهيم معقّدة ( عند نظر الكبار) مثل الولاية و البراءة ، قوّة الجماعة، بذل الوسع و غيرها، لقد استطاعوا إسقاطها على واقع الصغار ببراعة و إبداع: البطولة هي أن تستوعب الفكرة مهما صعبت ثمّ تبسّطها للنّاس حتّى يعيشوها و يطبّقوها في حياتهم كل على قدر حاجته ومستواه.
3-   اليابان بلد تطرّف في تقديس الجماعة على حساب الفرد و قدراته المتنوّعة، و الغرب موطن تطرّف في حرّية الفرد على حساب الجماعة و تماسكها، و كلا القطبين ينتظر أمّة الوسطية و التّوازن.
4-   كثير من العادات اليابانية تشبه إلى حدّ كبير عاداتنا و ثقافتنا فلما نؤمن بهم و لا نؤمن بأنفسنا؟ ألأنّنا نرى نجاحهم المادّي و لا نرى نجاحنا أم ماذا؟ِ
بكير ابراهيم الحاج امحمّد
                     الأحد 17 ذو الحجة 1432ه الموافق ل 13 نوفمبر 2011م

هناك 5 تعليقات:

  1. سليمان حمو أبوالعلا13 نوفمبر 2011 في 7:59:00 م غرينتش+8

    سلام قولا من رب رحيم

    مقال مهم أخ بكير . خاصة و نحن نطمح لبناء نهضة شاملة، و أول خطوة في إعتقادي هي الجانب التربوي. فأخلاق المجتمع الياباني مستمدة من المدرسة و الأسرة أولا.
    فيما يخص سؤالك أرى أن الفرد المسلم يرى نفسه بنظرة دونية و أن الآخرين أفضل منه و لن يبدع أكثر مما و صل إليه العقل الغربي . فهي مشكلة نفسية داخلية منهجية لها علاقة بطريقة تفكبر الفردالمسلم. قبل أن تكون شيئا آخر . لمثل هته المسألة كتب الدكتور عبد الحميد أبوسليمان كتابه : أزمة العقل المسلم. و الله أعلم .
    سليمان الباروني .سلام

    ردحذف
  2. السلام عليكم
    شكرا اخي بكير على هده الانوار التربوية المستقاة من التجربة اليابانية. هدا و لا ريب اني لاحظت في اغلب النقاط التي اشرت اليها، نابعة من فطرة الانسان الصافية التي فطر الله الناس عليها و التي تنبني في جانب كبير منها على حب الخير و أهله و بغض السوء و الشر و اهلهما. كما ان ديننا الحنيف جاء لييرسخ هده الفطرة ويقيها من مزالق النفس و الهوى والشيطان ثم الرقي به الى مدارج الكمال البشري علما و خلقا . غير ان حال التربية في بلاد المسلمين عموما و الجزائر خصوصا لا تبشر بخير و الا فكيف نفسر قيام بعض التلاميد بأحراق قسمهم فما فيه من كتب و محافظ. و السؤال الدي طرح ولا يزال يطرح نفسه بالقوة ابناؤنا الى أيم؟؟؟ هل اقتصر دور الاستاد على نسخ ما في الكتب في الادمغة البشرية من غير ان يتجسد دلك سلوكا و أخلاقا ام ان اليتم قد حل بالقوم جميعا؟؟؟؟
    حلل و ناقش

    ردحذف
  3. السلام عليكم ورحمة الله
    اشتقت إليكم يا إخواني في ماليزيا
    وأشكر أخي وحبيبي بكير على مقاله الذي كان بالنسبة إلي هدية عظيمة
    نظرا لاشتغالنا في هذه الأيام بهذا الموضوع.
    مقال بكير يقول لنا عليكم باسترجاع الثقة في أنفسكم ثم ستجدون أن الأمر سهل بعد ذلك.

    ردحذف
  4. حسن بن يوسف حميد أوجانه14 نوفمبر 2011 في 5:46:00 م غرينتش+8

    نشكرك كثيرا أخانا بكير على هاته المعلزمات النيرة التي انرتنا بها و جزاك الله كل خير.
    إجابة على تساؤلك لماذا يحقر المسلم نفسه؟؟
    فأجيب على حسب رأيي أن المبادرة و الابداع و التعبير و الإرادة قد حرقوا منذ الصغر ...و يقال للولد: أنظر ابن عمك...أخوك...جارك...صديقك...الياباني...الأمريكي .....دوما أحسن منك.
    فكيف يرى هذا الولد المسكين نفسه ؟ أهو عملاق...أم وحش ...أم قزم؟؟؟
    و كذلك حال الفتاة عندنا: إن فعلت كذا سيضحك منك الناس؟؟إن فعلت كذا ماذا سيقول الناس عنا؟ إن فعلت كذا ستغضب أبوك ؟ إن فعلت كذا سينفر الناس عنك؟ إن فعلت كذا ستبقين عانسة لن يتزوج بك أحد؟؟؟ بربكم ماذا ستفعل هاته الفتاة بنفسها ؟ إلا أن تكون في الأخير هدية سائغة للآخرين يفعلون بها ما يشاؤون...و تقول في أعماقها أنا لا أساوي شيئا في هاته الحياة لأنني خلقت لأرضي الناس و لا أغضبهم و لا تهمني نفسي.
    و الله أعلم و أحكم
    سنكون بإذن الله ممن يسابق اليابانيين
    و يأخذون عنا القيم و الأخلاق و الحضارة لأننا أجدر بها عنهم ، و لم لا و نحن خير أمة أخرجت للناس، هذا إن تمسكنا بحبل الله.
    و السلام

    ردحذف
  5. مقال أكثر من رائع، فقد حفظ ووثق نقاط المحاضرة وكأننا حضرناها.. جزاك الله خيرا أخي بكير
    حقا، إن جلّ القيم التي ذكرتها هي عندنا بالسليقة في وادينا وعليها تربّى أكثرنا،لكنها إلى الزوال سائرة
    في حين أن اليابان يعتز بها، بل ويمتطي بها صهوة التحضّر والتقدّم

    ولكي نشاهد النقاط التي ذكرها أستاذنا بكير بعين البصر، أهدي لكم فيلما تربويا رائعا في عشر حلقات، بعنوان
    edison no haha
    والدة إيديسون

    يحكي فيها تجربة وخبرة اليابان في التعليم ممثلة في شخصية والدة المخترع إيديسون
    لن تندموا على مشاهدته أبدا وستتعلمون الكثير كما تعلمت أنا
    وقل رب زدني علما
    والله الموفق

    ردحذف