إن من أهم التحديات التي تواجه واقع مناهج تدريس العلوم الشرعية هو تكوين طلبة على مستوى عال من التفكير الناقد، والذي به يمكن إيجاد بيئة علمية مفتوحة تسمح بتلاقح الأفكار وتقاربها، وتعمل على نقد فاعل للتراث دون الارتهان إليه والتعصب له، للبلوغ بالعلوم الشرعية مرتبة من التجديد والتفاعل مع الواقع دون المس بأساساته.
ومن أبرز الإشكالات التي تقف عائقا أمام هذه النقلة
المنهجية النوعية هي الحساسية تجاه جدلية النقل والعقل، فغدا طالب الشريعة متوجسا
من كل إعمالٍ للعقل في دائر العلوم الشرعية، فترى
التفكير والتمحيص والنقد في كل باب وفن، وما إن ترد أعتاب العلوم الدينية حتى
تُصَدَّ دونه الأبواب ليُترك المجال فسيحا للتقليد والتعصب والارتهان السلبي إلى
رجالات الماضي –وقد كان بعضهم على قدر عال من التفكير الناقد-، وهذه الجدلية مسألة
عميقة الأثر في النظرية الإسلامية للمعرفة.
وبنظرة متدبرة في المصدر الأول للعلوم الشرعية نجد مكانة
سامقة للعقل والتفكير النقدي، فالقرآن الكريم يعتبر العقل مصدرا أساسيا أصيلا
لتحصيل المعارف، وقد أناط الله تعالى به مسؤولية التكليف وقيام الحجة، وعلّق سبب
هلاك الهالكين على قعودهم عن التفكر والتعقل " وَقَالُوا
لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ".
والعقل والوحي في الرؤية
القرآنية متوافقان متكاملان غير متنازعين ولا متقابلين، ولا يتقدم أحدهما على
الآخر ولا يصادر أحدهما الآخر، فالعقل أداة لفهم الوحي وتصديقه، والوحي وسيلة
للرقي بالعقل ومنطقه ووعيه وزيادة مناعته ضد الباطل، فلا الوحي مقدم على العقل ولا
العقل مقدم على الوحي، وهي مقارنة غير سديدة أساسا؛ لأنها مقارنة بين مختلفين في
الطبيعة، فالوحي موضوعات ومنهج والعقل أداة ومَلَكة، ونحن نجد أن الوحي يدعو إلى
أقصى درجات التعقل، لأنه مهما تحررت العقول اقتربت من الوحي، ومهما تحجرت وتعصبت
إلا وابتعدت عن الحقيقة "وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ".
ولقد
ساير الله في كتابه العزيز منهجية
الإنسان في التفكير وبلوغ الحقائق -والتي هي أساسا من خلقه وإبداعه سبحانه-، فلم
تكن آيات الذكر مفاهيم دوغمائية، بل كانت تنساب مع التسلسل المنطقي الذي يبني به
الإنسان أفكاره وتصديقاته عادة، فانطلق معه من التصورات الجلية وصاحبه في البناء
الاستدلالي الواضح المتين للوصول أخيرا إلى تصديقات إيمانية راسخة، وهو في كل ذلك
يستفز! العقل ويدعوه إلى مزيد من التفكر والتذكر والتدبر... " هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ
تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ
لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ
بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ".
والقرآن
الكريم لم يقف عند عتبة الكلام عن جواز إعمال العقل وفائدته، بل جاوز ذلك إلى
اعتباره مسؤولية يترتب عليها ثواب أو عقاب، فنجد أن القرآن الكريم لم يعتبر عملية
التعقل والتفكر عملية تحسينية مندوب إليها، بل اعتبرها ضرورة ومسؤولية يجازى عليها،
ولم يقف من تلك المسؤولية موقفا سلبيا، بل صاحب الإنسان في مسيرة صقل تلك الملَكة
التعقلية وصيانتها، ففضح له المعيقات والمؤثرات التي قد تغشى العقل وتقعده عن وظيفته
السامية " وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ
كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ".
إن
هذه المنهجية القرآنية تملي علينا أن نعتبر التفكير الناقد وإعمال العقل ركنا ركينا
في المنظومة المعرفية الإسلامية وإلا حادت عن منهج مرجعها الأول القرآن الكريم، وهذا
يقتضي تفعيل العمل النقدي المتواصل لتحصين الفكر الإسلام من تعفن الركود والتقليد،
وإنَّ تعاظم ذلكم التعفن قد يحجب جذوة الوحي متجدد الشعلة..." أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ
الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ".
وهذا
يستدعي الانتقال من براديم تحكمه المربعات الطائفية التقليدية؛ حيث يُحكم على
المنظومات الفكرية إجمالا عوض تمحيص المسائل انفرادا – إلى برادايم نقدي متفاعل
حيوي لا يتمحور إلا حول القرآن الكريم -بوصفه مرجعية قطعية الربانية- لا تثبت فيه
إلا الأفكار التي تحمل صدقا في تركيبها المعرفي الداخلي عوض الارتكاز إلى مشروعيات
تاريخية أو طائفية...
والانتقال
إلى بارادايم جديد لا يلزم أن يكون على أنقاض القديم فقد تكون عملية متوازية،
وبالتفاعل النقدي بينهما سيزيح الأقوى الأضعف وتستمر الحياة...، ولنا في التجارب
البشرية نماذج لتلك التحولات، فمن كان يظن أن الفيزياء التقليدية التي بلغت قمة
الانضباط الرياضي أنها ستُزاح إزاحة ثورية، ففي العام 1900 قال كلفن أنه لم يعد
هناك المزيد لاكتشافه في الفيزياء إلا المزيد من الدقة، ولم تمض إلا خمس سنوات حتى
قال أنشتاين كلمته وتحدى أساسات الفيزياء النيوتنية، وبيّن للإنسان الضعيف أنه قد
يجتمع الألوف المؤلفة من العلماء ولعشرات السنين على التفكير داخل صندوق مغلق!،
ومع هذه الآيات الكونية التي تدل على ضعف الإنسان ومحدودية فكره – لازال البعض
يعتقد أنه لم يترك الأول للآخر شيئا!!
أبونصر بن محمد
هكذا الإنسان عندما يتجرد من عواطفه يصبح يفكر بعقله ويحكم الأشياء إليها. ومما ذكرني به موضوعك: في بعض الأحيان تسأل أحدهم(الدكاترة الفضلاء) حول موضوع مذكرة تخرجك أو الموضوع الذي اخترته للبحث فيجيبك بكل تعجيز بأن البحث قد عولج من قبل وسوف لن تأتي بالجديد فتضع عقلك جانبا دون أن تشعر وتوجه تفكيرك الوجهة الخاطئة حيث تفقد الثقة في نفسك والموضوعية في بحثك وربما تتغاضى عن تناقض جلي أمامك بدعوى أن العلماء قد أسالوا فيه الحبر كثيرا فكيف أن يخطؤوا أو يسهوا عنه إذ لم يتركوا موضوعا إلا وتناولوه، فهكذا تتجمد عقولنا وتغشى أبصارنا عن الحقيقة.
ردحذفأخيرا نشكر أستاذنا على الموضوع ونسأله تعالى النوفيق والسداد ودمتم أوفياء لرعيتكم.