العلم
نور للأبصار وبصيرة للفؤاد، وقائد في مضائق الدروب الوعرة، والظلماء المدلهمة،
أوصى به المولى تعالى في أول آية في القرآن، وحثنا عليه المصطفى العدنان، واحتفى
به العلماء وأهل الرفعة والشأن.
من
هو الراشد ؟ إنه صاحب العلم، لأن العلم يوقف صاحبه على أخطائه فيصوبها فيزداد
صوابا ورشدا، وأقرب الناس إلى الله هم أشدهم خشية له، وهم العلماء، لمِا اكتشفوا
من سعة علمه تعالى وعموم قدرته وجميل رحمته.. هم من يتبحر في دقائق الكون من الذرة
إلى المجرة، فيعودوا بمزيد الخشية وخالص التقوى وجلال التسبيح لله تعالى.. وفوق كل
ذي علم عليم.
لا
أحد يرضى أن يكون في الحياة كالأعمى لا يبصر سبيلا ولا يرد ضررا، ولا يبعد خطرا ؟
لا أحد يريد أن يقع فريسة للجهالة وسوء الحال مع أن الحل بين يديه، ومفتاح العلاج
موكل إليه، لكنه أغمض عينيه وأصم أذنيه.. هل يستوي الأعمى والبصير !
مثاله
رجلان، دخلا دروبا للوصول إلى مكان واحد يريدان بلوغه، لكن أحدهما بيده مصباح
يكتشف به الطريق: هذه أفعى أبتعد عنها، وتلك حفرة أتجاوزها، وذاك طريق لزج أحذر
الإسراع عنده، وفي تلك المنطقة قطاع طرق لابد أن أختار الوقت المناسب للمرور فيها
حيث يغرقون في نومهم... وهكذا، أكان واصلا إلى مبتغاه ! أم ذلك الرجل الثاني الذي
لا يملك مصباحا، ولا يهتدي بضياء، يمر بالأفاعي يظنها حبالا، أو بالحفر يحسبها
سواء، وبالأرض الرخوة يخالها صلبة، أو يقع فريسة لقطاع طرق... فأي الرجلين أهدى
سبيلا، وأقوم قيلا، وأحسن منقلبا ! وما الذي فرق بينهما غير العلم الذي يزيدنا
الإبصار، ويقينا الأخطار !
العلم
يعلمنا كيف نستثمر أموالنا فنزداد انتفاعا بها، وكيف ننفقها فنزداد اغتناما وخيرا،
العلم خبرة وتجاربُ كثيرة نستفيدها في وقت وجيز.. ما كنا لتتقنها إلا في زمن طويل،
وجهد كبير.. وأخطاء وأضرار..، ولا يزال بعض الناس يجرب ويعتمد على تجاربه، ويخطئ
ويفسد، وتجارب الإنسانية كافية، والعمر قصير، ويكفيه أن يتعلم من تجارب غيره..
فالعاقل من تعلم من غيره، والأحمق من توقف عند تجاربه.
كفى
واقعنا ترقيعا وتجريبا وتضييعا لجهد نحن أحوج إليه وإفناءً لوقت أولى به أن يقدم
في أهمَّ من ذلك.. ألا يكفينا تجريبا في تربية أولادنا.. كل يريد أن يجرب ويرى إلى
نفسه أنه الأحسن.. وقد سبقه العلم في هذا المجال كثيرا، واختصر لنا سبل العلاج..
لكن! بعض الناس يجرب، فإذا اعوج ولده وتراكمت أخطاؤه عنده، فأنى له أن يعيد
تهيئته، ويسوي تنشئته!! والكل يجرب! وكم من خسائر في النفوس والأولاد نجني، وكم من
العقد والأزمات تستشري... ثم في الأخير يستقيل الوالد والوالدة عن مهمتهما ويرميا
ذلك الخلق الذي جربا فيه إلى الشارع، يلاقي متاعبه ويُنهِك غيره... ألا بئسا لأمة
لا تستفيد من تجارب غيرها، وبعدا لناس لا يريدون تعلما.
والنتائج
ستظهر لا محالة، فمن استضاء بنور العلم فقد ظهر ذلك في حياته، في أسرته، في
علاقاته، في نجاحه في تجارته، في حله لمشكلاته... ومن أعرض عن المصباح عاش في
الظلمات، كحاطب ليل أراد جمع حطب للإيقاذ والنفع، فصادف أفعى فمسه منها سوء عذاب.
الكون
كله في نظام مطرد، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وما علينا إلا أن نكتشف ذلك النظام
فنعمل وفقه.. حينها سننجح وننتفع ونبلغ أقصى ما يمكن من إصلاح الأرض وأداء الحقوق بين
الخلق، وإن نحن أهملنا ذلك.. فإن سنن الله وقوانينه لا تحابي أحدا، ماضيةٌ
مطردةٌ.. وحينها ما الذي سنجني من الجهل !! إلا الجهالةَ والضررَ والعنتَ والهلاك.
وإذا
كان الولد الصغير قد يضر نفسه بالزجاج ظانا أنه شيء نافع فيجرح يده ويدمي نفسه،
فكذلك من يجهل قوانين الكون ونظامه سيكون مآله مآل الولد الذي يضر نفسه دون أن
يدري ويشعر.
وإذا
كنا تحققنا من وجود قوانين في الكون ونظامٍ.. فكذلك في حياة الإنسان قوانين ونظام،
أليس الإنسان جزءا من هذا الخلق! والذي لا يبحث عن نظام الإنسان: كيف يحيى وكيف
ينمو وكيف يترقى وكيف يتخلق ! فإنه لن يستطيع الاستفادة من هذا الإنسان.. بل سيضر
أكثر مما ينفع.. ومن لا يأخذ بالسنن حقيق به أن يكون أسوأ حالا من الولد الذي يضر
نفسه.. فالصغير لا يعقل.. فما فعل فمعذور فيه.. وأما من يملك عقلا ويرى إلى الأمور
في نصابها ثم يهمل ويعرض فهو أسوأ حالا.. هل يستويان مثلا !
أليس الأليق بنا أن نرى إلى
الأمم في تطورها واستفادتها من خيراتها: شقوا الطرق، وطوروا المراكب وأحدثوا
الآلات.. وبلغوا إلى تقريب البعيد..فترى أحد إخوانك وبينكما المسافات البعيدة
بآلاف الكيلومترات، تراه أمامك يحادثك بالصوت والصورة، أليس هذا من آيات الله
الدالة على قيمة العلم! لننظر كيف حوّل الإنسان الزفت الأسود إلى وقود يعينه على
قضاء مآرب كثيرة، ما كان له أن يقضيها.. أبعد هذا يعزف بعض الناس عن العلم ويشتغل
بمتع حياته، ويجري وراء لذة عابرة، ولا يدري أنه في الأخير هو الخاسر.. ذلك هو
الخسران المبين.
<!--[if !supportLineBreakNewLine]-->
<!--[endif]-->
<!--[if !supportLineBreakNewLine]-->
<!--[endif]-->
من أرشيف خطب الجمعة. بتصرف
محمد بن داود تمزغين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق