السبت، 16 جوان 2012

العقل وموقعه في المنهجية الإسلامية (3)


العقل والنقل في المجال الفقهي:
أشار الكاتب في بداية هذه الجزئية إلى أن الوضع القاتم الذي عاشته الأمة من فصام بين العقل والنقل وصراع بينهما لم يكن وضعا عاما، فقد وجد بعض أئمة الفقهاء كأبي حنيفة ومالك الذين أحسنوا التعامل مع قضايا الكلام وتجاوزوها ليشتغلوا بما ينفع الناس فتركوا إرثا لا تزال الأمة عالة عليه. ولكن خلف من بعدهم خلف ضيعوا الكتاب واتبعوا الشهوات فتحول الفقه من أسلوب ونهج لضبط حياة الناس ووقائعها بضوابط الشريعة إلى وسيلة لتسويغ الواقع ووضع أحكام افتراضية وظهر باب الحيل والمخارج وأجيزت المحرمات بالتلفيق بين المذاهب... 
ووجد إلى جانبهم من أحسن الجمع بين العقل والنقل في سبيل تحقيق مقاصد الشرع وحاول وضع ضوابط شرعية من مثل البراءة العقلية للأشياء في غياب الدليل وملاحظة الضرر والنفع حتى يأخذ ذلك الشيء حكمه، فظهر نوعين من الحكم: حكم شرعي وحكم عقلي. وحكى الكاتب اتفاق كلمة الفقهاء جميعا على كونه دليلا يجب الأخذ به وأن أدلة الأحكام اثنان لا ثالث لهما "النص والعقل". واستغرب الباحث ممن يحتج بالرأي كيف لا يحتج بالدليل العقلي؟ وقد كان الأئمة يجتهدون بإطلاق لا يضبطهم إلا التقوى والضوابط العلمية متحملين مسؤوليتهم فيما يقولون من غير أن يلزموا غيرهم بآرائهم، كما قرروا أن العقل شريك للنص لا ينفك عنه في فهمه وتفسيره أو تأويله وتطبيقه على الوقائع. واتفقوا على أن للعقل أن يستقل بالحكم الشرعي إذ يسمونه بالدليل العقلي المستقل أو الدليل العقلي غير المستقل، كما أبدعوا ما سمي بالاستدلال بمعنى "إقامة دليل ليس بنص ولا إجماع ولا قياس شرعي" وإنما بأدلة قائمة على النظر العقلي المحض. ولم يرض الكثير من الأئمة صنيع الشافعي في محاولته حصر مجال النظر العقلي فيما له أصل يرجع إليه، فقالوا بالمصالح المرسلة والاستحسان، والعرف والعادة. وقد كان فقهاء المذهب الظاهري أقوى الفقهاء دفاعا عن حجج العقول حتى عقد له الإمام ابن حزم بابا خاصا في كتابه عرض فيه مصادر معرفة الحكم الشرعي ورد على منكري الاحتجاج بالعقل.

تغير وظيفة العقل لدى الفقهاء أيضا:
لم تبق وظيفة العقل عند الفقهاء على سابق عهد سلفهم إذ أدخلت في علم الأصول مباحث كلامية لا طائل تحتها، فاضطربت الرؤية وضيعت المصالح وانتشر الخلاف بينهم حتى برز علم الخلافيات. ووظيفة الخلافي هدم مذهب خصمه بشتى وسائل الجدل والمنطق مما أجج الصراع بين المذاهب الفقهية أيضا وفشى التقليد والتعصب بين المسلمين ولم يخل الزمان من فقهاء السوء الذين يجارون الحكام على الباطل، مما كان سببا في مناداة بعض الفقهاء بسد باب الاجتهاد إلا لمن توفرت فيه شروط أقل ما يقال عنها أنها تعجيزية لا تتوفر إلا في حالات نادرة، مما ساهم في ركون العقل المسلم إلى الراحة والاستسلام حتى دب الوهن في الأمة وسهل على أعدائها احتلالها لتتوجه الجهود بذلك إلى الدفاع عن الأرض متناسية إصلاح الفكر. ووجه الباحث انتقاده لمن أبطل موجب العقل جملة ولمن ادعى أن العقل يحلل أو يحرم، فكلاهما قد افتروا على الله إفكا وأتوا بما لا تستسيغه العقول.
وختم الكاتب مقاله ببيان حقيقة العقل في أنه "تمييز الأشياء المدركة بالحواس وبالفهم، ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية وعلى ما هي عليه فقط: من إيجاب حدوث العالم، وأن الخالق واحد لم يزل، وصحة نبوة من قامت الدلائل على نبوته، ووجوب طاعة من توعدنا بالنار على معصيته، والعمل بما صححة العقل من ذلك كله، وسائر ما هو في العالم موجود مما عدا الشرائع، وأن يوقف على كيفيات كل ذلك فقط." 
والله أعلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق