نبه الكاتب
في البداية إلى خطورة الخلط بين عالمي الغيب والشهادة بإعمال نفس الوسائل في
كليهما وبنفس الطريقة، وهو ما لم يعرفه عهد الصدر الأول من الأمة كما يظهر في قصة
الحباب في غزوة بدر وكذا تأبير النخل وغيرها. فالجانب العقدي المتعلق بأمور الغيب
لا يدرك إلا بالوحي، ومع ذلك فقد استعمل القرآن عالم الشهادة لإيصال مفاهيمه إلى
الناس، فكانت الطبيعة والحواس والعقل والوحي تعمل معا لإحداث المعرفة وتحويلها إلى
القلب إيمانا. أما مسائل التشريع من سياسة ومعاملات وغيرها فقد كثر فيها الاختلاف
بين المجتهدين لابتنائها على المصالح والعلل التي تعتمد بالأساس على العقل. واستدل
الكاتب على ما ذهب إليه من تفريق بين مجال العقيدة وغيره من ملاحظة نصوص القرآن،
حيث كان يجيب على أسئلة الصحابة إذا كانت في أمور الحياة، أما أسئلتهم المتعلقة
بعالم الغيب فقد كان يلفت نظرهم إلى الحكمة منها أو يحيلها إلى علم الله تعالى.
نماذج حية
لمواقف السلف من العقل والوحي:
ذكر الكاتب
موقفا للرسول عليه الصلاة والسلام وموقفا لعمر بن الخطاب كخليفة للمسلمين يظهر
منهما نهيهم الاشتغال بمتشابه القرآن لما فيه من تعطيل الطاقات ووضعها في غير
موضعها. وأشار الكاتب إلى اشتراك جميع الأديان في وجود مساحة من الحقائق التي تؤخذ
بالتلقي ولا يبحث فيها لعدم وجود فائدة دنيوية منها وإنما وجدت لتعزز معاني
الدينونة لدى الإنسان وتحمله على الإحساس الدائم بعظمة الله. وحكى الكاتب اتفاق
كلمة المؤرخين على وحدة العقيدة لدى الصحابة وكذا موقفهم من قضايا الغيب
والمتشابه، واختلافهم –المؤرخون- في تعليل هذه الظاهرة، أما الكاتب فيرى أن أهم
الأسباب هي: الإدراك السليم والفهم الدقيق لعالم العبودية وعالم الألوهية،
والمعرفة التامة بالفوارق بين عالمي الغيب والشاهدة، والتمييز بين وسائل المعرفة
الخاصة بكل منهما.
أول الوهن
وبداية الفصام:
أرجع الكاتب بداية الفصام بين العقل والوحي إلى
أعقاب الفتنة الكبرى أين ظهرت فرق الخوارج والشيعة والمرجئة. طرح الشيعة فكرة
الإمامة ورأوا أنها كمنصب النبوة لابد لها من نص، وبمقابلهم جماهير المسلمين الذين
رأوا أنها قيادة للأمة ورعاية لشؤونها فللمسلمين أن يؤمروا من يرونه كفؤا لذلك.
وفي ظل هذا الصراع بينهم وإعواز النصوص الصريحة ظهرت فتن أخرى تمثلت في: تأويل
النصوص لتناسب مذاهب وأحكام مسبقة، وضع الحديث لتوفير نصوص صريحة على ما يريدون.
التفسير
والتأويل:
بعدما ذكر
سابقا استعمال التأويل من أجل تبرير أحكام مسبقة لدى بعض الفرق خصص الكاتب حوالي
أربع صفحات للحديث عن التأويل وعلاقته بالفصام بين الوحي والعقل. أشار في
البداية إلى أهمية حفظ الله تعالى للقرآن باللفظ وتحريم روايته بالمعنى حتى يبقى
مرجعا أساسيا للمسلمين عبر العصور يرجعون إليه متى اختلفت كلمتهم، ومما لوحظ أيضا
قلة تفسير الرسول عليه السلام للقرآن واختلاف الصحابة أنفسهم في بيان معنى الآيات
وهذا حتى لا تحبس العقول في فهم محدد مخصوص بل يبقى مجالا للفهم والتأمل لمن يأتي
بعدهم.
مع بداية
الوضع في الحديث اتجه الوضاعون نحو التفسير ليشوشوا على المسلمين فهم القرآن بعد
أن أعياهم تحريف لفظه، فكانت البداية من مقاتل بن سليمان الذي ملأ كتابه
بالإسرائيليات الدالة على تشبيه الباري بخلقه تشبيها ماديا، وسرعان ما تحول هذا
النهج إلى مدرسة وظهرت من بعدها فرق الحلولية، وكرد فعل لها ظهرت جهود لتنقية
السنة من الموضوعات عن طريق نقد الأسانيد وظهر فريق آخر فضّل استعمال المنهج العقلي
لغربلة الأحاديث وامتد نقدهم إلى أحاديث صحيحة تناولوها بالرد أو التأويل، وامتدت
حركة التأويل إلى آي القرآن فظهر التفسير بالمأثور مقابل التأويل.
ومن بين من
اشتهر عنهم التأويل العقلي للنصوص الجعد بين درهم حيث كان يؤول أي نص ثابت قد يفهم
منه التشبيه ويرفض أي حديث غير متواتر لنفس السبب، وانتقلت أفكاره إلى الجهم بن
صفوان الذي تنسب إليه فرقة الجهمية وأضافوا إلى تأويل النصوص الثابتة رفض أي حديث
صحيح لا تقبله العقول. وختم الكاتب هذه القضية بالإشارة إلى إشكالية ردود الأفعال
التي عادة ما تعالج الداء بالداء حيث قال: "إن القضايا الخطيرة في تاريخ
الفكر الإنساني حين لا تعطى فرص النمو والتفاعل السليم القائم على النظر الكلي
المحيط بكل ما له في الأمر علاقة فإن الآراء والمذاهب تأتي فجة قاصرة انفعالية، إن
عالجت شيئا حطمت أشياء."[1]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق