موقف من أحد أصدقائي المقربين ذكرني بمشهد ليس
بالبعيد لشيخ من شيوخنا رحمه الله، فأما موقف صديقي فقد جاء أحد الطلبة -وقد مرّ
حدث من الأحداث في مؤسسة التعليم، وكان في كل طرف من أطراف القضية أناس لهم من
الحكمة وسداد الرأي، اختلفوا ووقع ما وقع، وصارت زوبعة ما ظن هؤلاء أن ستصل إلى
تلك الدرجة- فاستفسر الطالب ِمن صديقي -وقد كان أستاذا في المؤسسة- عن موقفه وماذا
يحدث بالضبط! فأجابه الصديق الحميم: اشتغل بدرسك، ولَأن تُبدِع فكرة وتنتج مشروعا
وتتقن عملا خير مِن أن تتابع ما حدث.
ذكرني هذا الموقف بشيخي الوقور رحمه الله، إذ
اجتمع لديه عدد من الطلاب يقدمون مقترحات ويستفسرون عن الوقائع، فما كان منه إلا
أن قال: اشتغلوا بدرسكم، ونحن ننتظر تخرجكم، ثم بعد ذلك سيكون لكم المجال.
فهل هذا موقف مناسب ؟ وهل يلزمنا أن نشتغل
بأعمالنا ولا نفهم ما يدور حولنا ! أو علينا أن نتتبع الوقائع ونعيش واقعنا! لعل
أحدهم يستبق فيقول إن موقف صديقك وشيخك غير مقبول بالمرة! فأقول لا تعجل، بل انظر
في معطياتهما قبل أن تتخذ الموقف أنت أيضا.
إننا نعيش في زمن تتقاذفه الأحداث والتغيرات من
كل جانب، حتى صار من غير المقدور أن نغفل عن كل ذلك ونشتغل بأعمالنا كأن لم يقع
شيء، بل إننا في كثير من الأحيان مرتبطون بنتائج تلك الأحداث، فستؤثر في أعمالنا
ولو بعد حين، ثم كيف يمكننا أن نتخذ الموقف المناسب ونحن لم نهضم واقعنا ولم نقف
على حساسياته وخيوطه المتشابهة المعقدة! إن المشتغل بعمله بعيدا عن كل هذه الأحداث
والحياة الصاخبة من حوله لأشبه بإنسان يعيش في كوكب آخر، أو إنه يتحرك وحده، وكل
ما حوله ساكن!؟
ولكننا إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية أخرى،
فهب أننا سلّمنا بلزوم معرفة الواقع وتتبع أحداثه وإدراك أبعاده، فهل لنا من
القدرات المناسبة ما يخولنا أن نفهم ما يحدث من حولنا؟ إن الأخبار التي تصلنا
معظمُها مضلل، قد تداوله نقال الخبر دون تمحيص غالبا، وكلٌّ قد أخذ منه بشطر
يناسبه، وضخَّم ما يريد تضخيمه، وتغاضى عن البعض الآخر، بل إننا لا نكاد نفرق بين
الحدث وما يلصقه النقال به من توابع، ولا ما يضيفه النقاد من تحليل، فهل يسعف ذلك
في استيعاب الواقع.
بل أكاد أجزم أن التحكم الإعلامي العالمي قد
بلغ درجة من التحكم فلا يرينا إلا ما يريده ويراه، ولئن تعددت القنوات الإعلامية
إلى الآلاف فإنها دوما لا تريك فعلا إلا ما تلتقطه المصورة التي بيد صاحبها. ولا
يصفو الجو ولا تَسْلَسُ الحقائق في الأخير إلا للقليل ممن أوتي وقتا متسعا للاطلاع
على قنوات كثيرة متنوعة المشارب والتوجهات، وكان له من الحس النقدي الشيء الكثير.
هل يعني هذا أن نترك كل ذلك ؟ كلا، بل ما لا
يدرك كله لا يترك جله، ولكن! علينا أن نتوثق من مصادرنا وأن نحافظ على درجة من
النسبية في اعتماد تلك الأخبار، مع حساسية مرهفة لتقبل كل نظرة مهما اختلفت معنا
في تحليل الوقائع. -وكم من الناس من يقدر
على ذلك ؟!؟- وعلى المرء أن يحاول استيعاب دائرة عمله ومحيطه الأدنى ويترقى شيئا
فشيئا إلى ما هو أوسع، لأن عمله أكثر ارتباطا بتلك الدائرة، وما من شيء يقع فيها
إلا وله أثر على عمله وأدائه.
لذلك، كان موقف شيخي ومِن بعده صديقي أن لا
نشتغل كثيرا بشيء ليس من السهولة استيعابه، خاصة إذا اشتبكت المواقف وتعقدت
الأمور، وهو ما يحصل في عصرنا، إذ صار كرقعة الشطرنج، لا تتحرك في خانة واحدة إلا
ولتلك الحركة علاقة بثلاث وستين خانة أخرى، مع مَن فيها من ذوي القدرات التي
تتجاوز الخانة إلى خانات وإلى صفوف، والقادر على التجاوز دون رقيب.
كما كان موقفهما يعني التركيز على التأثير قبل
الاهتمام، والواجب قبل الحق، فلكلٍّ دائرةُ تأثيرِه، فإذا استوعب تلك الدائرة أدى
عمله أحسن أداء، فينبغي إعطاء الاهتمام الكافي لتلك الدائرة، وفَضْلُ الوقت والاهتمام
يفسحه لما هو خارج تلك الدائرة، ولو عكس الأمر فإنه لن ينتج إنتاجا مثمرا، لأن
دائرة اهتمامه أكبر من دائرة تأثيره، فيبقى في الآمال وما ينبغي، أو يشتغل بما لا يعنيه،
تاركا واجبه وما يلزمه أداؤه، فيكون لا حقّق الآمال ولا أدى الواجب، وهي حال
الكثير من الناس الذين يحلمون ويحلمون ولا يعيشون إلا في الأحلام، وتسأل ماذا
حققتم! فلا شيء يذكر[1].
ولذلك ارتباط بالحق والواجب، فقد اشتهرت تلك
النغمة في عصرنا أن نطالب بالحقوق، ونسأل الكثير باعتبار اهتماماتنا واطلاعنا،
فيلزم ذلك المدير أن يستشيرني لأني عضو في المؤسسة! ويلزم أن لا يفعل الحاكم ذلك
لأنه يحكم باسمي! ولماذا فعل ذلك القائد كذا دون كذا! ويلزمه ألا يفعل هذا!
وتتعاظم الحقوق بقدر الشعور بالآمال والأحلام[2]،
دون أن ينظر إلى المقابل وهو الواجب الذي يمكن أن أصل من خلاله إلى تلك الحقوق
وأحقق تلك الأحلام[3]،
وتلك من طامات العصر أن صارت الحقوق قبل الواجبات، والاهتمام أوسع من التأثير.
إذا إن موقف شيخي رحمه الله وموقف صديقي العزيز
معقول إلى درجة، وهو أن نشتغل بالواجب ودائرة التأثير أكثر مما نشتغل بالحقوق
ودائرة الاهتمام.
ولكن! يبدو أن الصورة ناقصة، فالطالب والإنسان
عموما ابن عصره ووقته، ولا يمكنه أن يعيش بعيدا عن هذا المحيط من حوله، ولا يمكننا
أن نخرج الإنسان من محيطه كما لا يمكن إخراج السمك من الماء! بل الأمر أسوأ من
هذا، فهو يشكل صورة عن واقعه مَبْنِيَّة على ما يصله مِن أخبار وما يقتنع به- مهما
كان منطقه- مِن تحليلات. ثم لو أننا تركنا الأمر بهذه الطريقة، لما نتج عندنا بعد
حين من نثق في علمه وتوثقه من معلوماته، وما يتوصل إليه من نتائج تحليلاته لواقعه،
ممن سيوجه المجتمع والأمة بعد ذلك! فكيف العمل؟
لعل مِن أحسن السبل أن نركز في خَلَد طلابنا -بل
كل الناس-: أن يركزوا وقتهم وجهدهم في الواجب ودائرة التأثير، مع تطوير تصوراتهم
للواقع، إضافة إلى تكوين ملكات النقد والتحليل فيهم، وذلك ببسط القضايا والأحداث
أمام أنظارهم بما هو مناسب للعقول، وبما يمكن تصوره، مع التركيز على السنن وطرائق
التفكير والتحليل فهو الأهم.
وبعد، فمن يقوم بذلك ؟ إنهم المثقفون الذين
يرجع إليهم الناس، ويسألونهم إفادة وإزالة شبهة وتحقيق خبر واستيعاب حدث، مع تواصل
بين المثقفين في تقريب وجهات النظر والتعاون في رسم الصورة الحقيقة للواقع كما هو،
والقبول بوجهات النظر المختلفة إذا كانت كلها مقاربات سليمة المنهج. ففي ذلك تقسيم
للأدوار، وتدريب وتعلم وسؤال وإفهام وتواضع واحترام.
وإذا قلنا المثقفين، فهؤلاء هم مثل شيخنا
المرحوم، ومثل صديقنا الفاضل. وهنا عدنا إلى نفس الموقف الأول! مع اختلاف في زاوية
التحليل، وقد نسيت أن أضيف بأن الشيخ قد استاء مِن طريقة الطلاب في حوارهم فقد كانوا
أقربَ إلى المساءلة منهم إلى التفهم وتقبل الشيخ، وأن الصديق قد خشي ألا تُفهَم
وجهة نظره فيضعه الآخرون في جوار أحد الطرفين ضد الآخر، وتغيب الحقيقة.
ولعل سائلا يستفسر فيقول: فإذا كان مثقفونا هم
أنفسهم في حاجة إلى تدريب وتأهيل، وتحقق في الأخبار وتمحيص في التحليل، واستيعاب
لرقعة الشطرنج التي صار العالم كله لعبة واحدة منها!؟ فللجواب مقام آخر.
محمد بن داود تمزغين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق