الجمعة، 4 ماي 2012

الإنسان بين الاحتياج والاستغناء


            [الحلقة الأولى]
       الإنسان لا يصل إلى كل ما يتمناه ويصبو إليه، لنقصه واحتياجه؛ فبصره لا يحيط بما حوله نظرا، وأذنه لا تسع ما حوله سمعا، وعقله لا يحوي كل الوجود معرفة، إنه محدود زمانا ومكانا؛ أما مكانا فهذا يحده السمع والبصر، وأما زمانا، فإن حاولت أن تخبر إنسانا عاش في القرن الماضي بأن في الوجود إنسانا يطير و يمسح المسافات في مدة وجيزة، أو قل إن مكتبة في سعة عمارة، موجودةٌ في قرص بحجم الورقة؛ لحكم عليك بالهذيان، ولانهال عليك ضربا باليمين.
فهذا مثال واضح عن ضيق حدود العقل وانتفاء إحاطته بالوجود معرفة زمانا ومكانا.

ثم إن الإنسان لا يدرك ما يتمناه؛ بأن لا تصل إليه يده، أو لا يسعه ماله، ولك في الغني والفقير مثلا، بل بين الأغنياء بون وفرق، ومن خصائص الإنسان أن حاجاته دوما في زيادة، وقدرته على توفيرها محدودة.
بل إن الإنسان ليمل من الشيء الواحد، ويطمع في غيره، فلا يجد إلى ذلك سبيلا إلا المبادلة و المقايضة، وهي من مظاهر احتياج الإنسان لأخيه الإنسان.
وإذا كان المرء في حالة خوف إن هجم عليه عدو أو اعتدى عليه معتد، فقد يقدر على رد العدوان، وفي معظم الأحيان لا يقدر على ذلك إلا بالاستعانة بإخوته.
        فالإنسان :- بالمعرفة يقوى، وبالجهل ضعيف.
        و  - بالمال يقوى، وبالفقر ضعيف.
        و  - بأخيه يقوى، وبالوحدة ضعيف.
بل أكثر من ذلك، أن المرء بين الشدة والرخاء وبين العسر واليسر، وبين الأزمة والانفراج فما الذي يُقويه على الشدة والعسر والأزمة فيصبر ويتجاوزها! وما الذي يكفّه عند الرخاء واليسر والانفراج فيتدبر ويُعد العدة لعسر وأزمة وشدة أخرى!
إن الإنسان ضعيف محتاج إلى غيره، مهما بلغ حاله وبلغت قوته.
وهذه حقيقة نص عليها الله تعالى في كتابه، مثل قوله:" وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه " و" وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما " و " وخلق الإنسان ضعيفا ".
لكن واقع الإنسان أنه صنفان :
- صنف واع بهذا الضعف والاحتياج، مقر به.
- وصنف غير واع به، ويحس بأنه مستغن عن غيره  وهذا الصنف الأخير، عادة ما يَظهر في حالات  تبدو ظاهرا  قوة في الإنسان، وذلك في حالة العلم معرفة، والمال غنى، والاجتماع قوة. وهي حالة صرح بها القرآن أيضا في الآيات الماضية، في قوله:" ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل" وقوله:" فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه"، وأوضح آية وأصرحها في هذا الموضوع:" كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ".
                فالإنسان :
- إن كان في أحوال عادية، عادة ما ينسى طبيعته القاصرة، وإذا صادف غنى استغنى وطغى.
- وإذا كان في أحوال اضطرارية، فحينها يحس بضعفه وفاقته واحتياجه.
والعاقل من يعي هذه الطبيعة، فلا تأخذه حينها الغفلة، ويرضى بما خُلق عليه من الاحتياج. وقد قيل: "إن الغني من أحس باحتياجه إلى غيره ".
بل إن الله تعالى حكيم في خلقه الإنسان في هذا الطبع، فإن الإنسان لا يكون في كامل استعداده، ويقدم كل ما في وسعه إلا حين يضطره الأمر، وهذا ما صرحت به الآيات. فإذا عاد إلى حاله السابقة، غلبت عليه العادة وطغت عليه الألفة؛ فكان عطاؤه أدنى من وُسْعِه وقدرته.
فلو خلقه الله مستغن لاستغنى عنه  تعالى عن ذلك  أولا، ولاستغنى عن غيره من خلقه. وماذا ينتج عن الاستغناء إلا البطر والطغيان المهلك للحرث والنسل.
فهذه هي أحسن حالة ينبغي على الإنسان أن يحياها، وهذا بالضبط ما خلقه الله عليه. فتبارك الله أحسن الخالقين !
على أن الله تعالى خلق في الإنسان أيضا طبيعة الاستعلاء والرفعة، وله في ذلك حكم وعبر من أهمها: أن لا يستكين للطغيان والذل، وأن لا يرضى بالدون والقليل، ويحيا عزيزا مهابا لا ذليلا ساقطا.
وكل طبيعة إنما وضعت لحكمة، وعلى الإنسان مراعاة ذلك.
ولكن: كيف يكون الإنسان في كامل وقته مستشعرا حالة الفقر والاحتياج ؟
                                                                    .....يتبع.....
 محمد بن داود تمزغين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق