[الحلقة الثانية]
لقد ركز الله تعالى في الإنسان معاني
الاحتياج والفقر إليه دون غيره:
- فأرشد إلى أنه العالِم لا عالم فوقه
"وفوق كل ذي علم عليم" وهذا يورث في الإنسان الشعور بأنه مهما بلغ من
العلم فقد جهل الكثير "ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء"، وسيندفع بعد
ذلك في تحصيل المعرفة ونفي الجهل عن نفسه، ويسأل الله العالمَ تعليمه، فالله
العالم وهو لا يعلم "وقل رب زدني علما"، ثم من ثمرات ذلك أن يرحم من هو
أقل علماً؛ فلا يكلفه فوق طاقته، كما لا يدَعْه يحيا في غياهب جهله وتيهه، مع تقدير
لكل ذي علم قدره؛ فيحترم أهل العلم ويعود إليهم.
-كما أن الله تعالى ذكر بأنه الغني
الرازق للمال "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني
الحميد"، "والله الغني وأنتم الفقراء"، ليذَكر الإنسان أنه مهما
بلغ ماله، فالله أغنى منه، بل هو الذي أمده به، وإن شاء تركه في الفقر والحاجة،
ولك في صاحب الجنة مثلا.
والله هو الذي أغدق عليه من رزقه. فلا
يكون الإنسان إذاً هو المالك الحقيقي للمال إذ صاحب المال موجود "وأنفقوا مما
جعلكم مستخلفين فيه". وهذا يحثه على الإنفاق منه؛ فيرعى حق الفقير؛ لأنه قد كان
مثله، ولا يضع المال إلا في موضعه، إذ يعلم أن هذا المال كما حصل قد يذهب، ولا
يمدن عنقه إلى من فوقه ليزداد حرصا فوق المطلوب؛ بل ليكون أضبط في عمله وأتقن في
حسابه، ولِيُجْمِل في الطلب.
-كما أن الله تعالى يرشد إلى أنه القوي
المتين"من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه"، "إن الله هو الرزاق ذو
القوة المتين"، "إن بطش ربك لشديد"، " إن أخذه أليم
شديد"، فلا تتعالى قوة أمامه "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار".
وبالتالي يغرس في الإنسان التواضع وعدم التعدي وظلم الغير؛ لأنه ضعيف أو وحيد، ثم لِيَرَى
إلى من هو أقوى منه من البشر نظرة لا يَعتورها الخوف ولا يثبطها الفشل، فالله أقوى
وأثبت، ومن استمسك بالقوي الأثبت فلا أقوى منه.
فالارتباط بالله عز وجل هو الذي يعطي
للإنسان حلَ معادلته بين الاستغناء والاحتياج.
ولكن إذا لم يرتبط الإنسان بالله تعالى؛
فيكتشف قوة الله أمام ضعفه، وغنى الله أمام فقره، وعلم الله أمام جهله، فإنه لا
محالة واقع في الاستغناء الذي وقع فيه فرعون في استكباره وقوته-وما أكثر أمثاله ممن أعجبته قوته
وجبروته- "وإنا [قول فرعون] فوقهم قاهرون"، أو في صورة قوم عاد:"من
أشد منا قوة، أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة". أو مثلما وقع
فيه قارون حين قال عن ماله: "إنما أوتيته على علم عندي" وكان التعقيب
الإلهي: "أولم ير أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر
جمعا".
تلك صور ونماذج عن الاحتياج والاستغناء
ينبغي على المرء أن يعيها جيدا، وكيف ينتج أثر الاحتياج إلى الله والاستغناء عن
غيره، في استنفاذ الوسع والجهد، فلا يكون ذلك إلا بالشعور بحال الاحتياج
والاضطرار والوعي بها، فالإنسان في حياته دوما في اضطرار، لكنه لغفلة
فيه أو لجهل يعتوره، أو هما معا، ولغلبة الأرض والدعة والركون على حاله، ولطول
الأمد عليه، لا يشعر بذلك، إلا إن مس الاضطرار أقصى ما يمس في حياته، فحينها
يستيقظ، ولات حين استيقاظ !
فالإنسان علاقته مع الله علاقة احتياج،
وإن ترقت إلى درجات أعلى كدرجة شكر النعمة ودرجة المحبة وغيرها، فالأساس هي درجة
الاحتياج وهي التي تبصر المرء بطبيعته وما
ينتظره، فيوثق نفسه بخالقها روحا ويستعد للعمل بكامل وسعه واقعا، ومما يدعم هذه
الرابطة وتلك الصلة: العبادات التي من بينها الصلاة؛ وهي مشتقة من الصلة، وهي دعاء
ولا يكون الدعاء إلا من الأدنى إلى الأعلى، والزكاة التي هي الإنفاق والتخلص من
سلطة المال إلى سلطة رب المال، والحج حيث الفاقة والاحتياج بارز في هيئة الحاج،
وطلب العلم وتعليمه، والأذكار، والنوافل والفضائل، مما يربط المرء دوما بالله؛ بالصلاة
خمس مرات في اليوم، والزكاة مرة في السنة، والحج مرة في العمر، وبالنوافل من
الصلاة والصدقة في السر والعلن، والأذكار عند كل عمل، وإن كان الذكر عند كل عمل
فهو نفي للغفلة وتذكير برب النعم والغني المستغني والصمد الذي كل الخلائق في حاجة
إليه، ولا حاجة له إليهم. ومع وجود الجماعة -تذكر وتتواصى وتصحح وتؤنس- فنور على
نور.
وإن امرؤ خرج عن هذا، فلا محالة ماض في
سُنَّة الاستغناء التي تورث الاستعلاء والطغيان والظلم والعدوان، و"تلك الدار
الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين"، هذا
في الآخرة، وأما الدنيا: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم
الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون"،
وقس على هؤلاء كل من استعلى وطغى، فرْداً كان أو جماعة "كلا إن الإنسان ليطغى
أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى".
وبعد، فموضوع الاحتياج والاستغناء، في
طبيعة الإنسان وأثرهما في حياته؛ مقدمات ونتائج، موضوع واسع متشعب، له أهميته وله
خطره، وما ذكر في هذا المقال إن هو إلا ملامسة لشاطئ بحره، تذكرة لمن غفل عنه،
وتوجيها للغوص فيه، غوصا يستخرج درره وينشر نفعه.
نسأل الله الصمد دوام الاحتياج إليه
ونعوذ به أن نغفل عن استعلائه أو أن نستغني عنه، آمين.
بقلم: محمد داود تمزغين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق