الثلاثاء، 27 ديسمبر 2011

هل يلزم أن نكتب التاريخ؟


سألت أحد الفضلاء عن تدوين التاريخ وما حدث من الوقائع، فوافقني على أهمية التاريخ وأنه يحفر في الذاكرة ويعطي بعدا كبيرا في فهم الحاضر والتخطيط للمستقبل، ولكنه اعترض على كتابة مجرات الأحداث الأخيرة لأن فيها ذكر الأشخاص وربما كان من بعضهم ما لا يحسن ذكره، وعساه يتوب فنكون قد ذكرناه بأخطائه وسوّدنا صورته في مستقبل أيامه، ولعل في الكتابة تقصير في ذكر الأفعال أو تفسيرها فنسيئ إلى البعض أو لا نذكر كل الحقيقة، وقد تكون وقفتنا مع أمور ليست هي الأمر المحرك للحدث فنكون قد وجّهنا النظر إلى غير وجهته.
فأسعفته في كلامه، إذ هذه بعض جوانب القصور وبعض المآخذ في الكتابة، ولكننا لو نظرنا إلى الجوانب الإيجابية في كتابة الأحداث لأدركنا أنها تربو على هذه المآخذ.
فكتابة الأحداث مفيدة جدا في فهم تسلسل الوقائع، وبناء الكثير من أحداث الحاضر على الماضي أمر بدهي، فكيف لنا أن نفقه الحاضر إذا كانت صورة الماضي غير مكتملة عندنا! وكيف نضع أيدينا على الأسباب ونقف على المؤثرات الأساس ونحن في غفلة عن كل المجريات أو المهمة منها على الأقل!
وقد نخطئ الخطأ الفادح ونحن نفسر التاريخ ونبني عليه معرفة الواقع بسبب الجهل بجهود كبيرة مهمة لم نطلع عليها لأن أصحابها كتموا ذلك بحجة ستر البر والخير، أو بسبب إعطائنا بعض الأمور الأهمية لأن أصحابها كتبوا ما أرادوا كتابته من مواقفهم، بغض النظر عن إخلاصهم وصدقهم.
ومما يضيع علينا في نقص كتابة التاريخ أن الأجيال الصاعدة لا تعرف الكثير من الجهادات ولا الرجالات فتكون شخصيتها مهتزة وثقتها برجالها هشة لا تلبث أن تنهار أمام إعلام الآخر وبهرجته، بغض النظر عن مدى نجاحه.
إننا لما نكتب التاريخ فنحن بذلك نتلمس أخطاء الآخرين كي نتجاوزها، ولولا ذلك لما تقدم الإنسان خطوات جبارة، إن التعلم بالخطأ منهج خصب للتعلم، والتعلم بالقدوة من أخطاء الغير نهج قويم لتفادي ما سبق، ولولا ذلك لما ذكر الله سبحانه لنا في القرآن الكريم هفوات الأنبياء، وأول ذلك ما وقع لآدم عليه السلام، فما دام قد تاب الله عليه فلِمَ يفضحه مولاه! (هذا بمنطق التفكير السائر)، كلا، إنه لم يفضحه، ولكن أراد لمن يأتي بعده ألا يقع في نفس الخطأ. وإذا كان الأنبياء قد ذكر الله هفواتهم لأنهم بشر فرفع ذلك من شأنهم (وهذا هو المنطق السليم للنظر إلى القضية)، أفلا يحسن أن ندوّن نحن أيضا جهود السابقين بإيجابياتها لتُقتفى وسلبياتها لتُتجاوَز، ليس محاسبة لمن سبق فحسابهم على الله، ولكن لما فيه خيرنا وصلاحنا !
وواصلت في حواري مع الأخ الفاضل فلفتت انتباهه إلى مقارنة تلك المآخذ التي ذكرها مع سلبيات أعظم منها وأطمّ، ولعل أكبر أثر ينتج عمن لا يدون تاريخه هو أن يدوّنه غيره. وحين أقول غيرنا فأنا أركز على ثلاثة أصناف هم:
-          أجنبي جاهل بقيمنا وتصوراتنا وواقعنا، فيرفع ما يراه مناسبا للرفع ويضع من شأن أشياء لأنها في نظره لا تستحق الذكر والتقدير، وهذا قتل لتاريخ أمة وإكراه ماضيها على النزول في قوالب من النظر والقيم غريبة عنها.
-          ابن الأمة لكنه تغرب، أي تأثر بالغرباء فصار ينظر بمنظارهم، ويزن الأمور والرجال والمواقف بموازينهم، إنه لو اشتغل بكتابة تاريخ أمته سيخرجه تاريخا مسخا، وهو أشد من سابقه لأنه مطلع على ما لا يطلع عليه غيره، ويطبق تلك المقاييس الغريبة أكثر من تطبيق أصحابها، ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن الغريب ربما حسّن نظرته إلى مجتمع آخر فبقدر اكتمال الصورة لديه قد يتعامل معه تعامل المكتشف لا الحاكم المقيِّم، ولكن ابن الأمة قد درج على استنقاص قيمة نفسه وإعلاء شأن غيره فلا يكاد يرى حسنا حقيقة إلا وقبحه لأنه لا يوافق الحسن عنده مما ترسمه مخيلته عمن تأثربهم.
-          ابن الأمة لكنه فقد مناهج النظر العلمي، فهو يكتب ويكتب، دون ضبط لما يكتب، ودون تحقيق فيما يسمع أو تثَبُّت ممن يأخذ، ثم يفسر المواقف والأحداث بغير ما ينبغي من السنن التي سارت عليها المجتمعات والأمم. وهذا مأخذ سلبي آخر.
والمجموع من كل ذلك أن نجد تاريخنا مدوَّنا بغير قيمنا أو بتعسف وحذف وإضافة، أو بقصور في نقد الأخبار وسطحية في التفسير. وكل هذه نتائج سلبية يتحمل مسؤوليتها من يلزمه كتابة التاريخ لكنه فرّط بدعوى التورع !!
وماذا ينتج عن تاريخ هذا شأنه، إنه نخر للذاكرة وقتل للشخصية وتضييع لتجارب وجهود.
صمت الفاضل صمتا طويلا، لم يقطعه إلا سؤال خطر بباله مهم مفاده: ولكن! إن التاريخ يحمل قنابل موقوتة، وربما ما سعى العاملون في رتقه سنوات تفتقه في لحظة واحدة ؟!
أجبته بجواب واضح ومحدد: لابد أن نفرق بين التدوين والتدويل، بين الكتابة والنشر. فليس كل ما يكتب ينشر، وليس كل ما يعلم يقال، وخاطب الناس بما يناسب عقولهم ويتماشى وردود أفعالهم أتريد أن يكذب الله ورسوله!
إن التدوين ضرورة، ويلزم أن يضعها المخلصون المتعقلون نصب أعينهم لئلا يقوم بالمهمة غيرهم، ثم للنشر ضوابطه وشروطه، لأن نشر المعلومة هو نقل المعرفة من عالم الأفكار إلى عالم الاجتماع، وهنا ستخضع الفكرة لعمليات كثيرة ليست هي العمليات التي تقع في ساحة الفكر والنظر.
ومن آلات النشر تحويل التاريخ إلى قصص وروايات، ورسوم متحركة للأطفال، وكذلك نقلها عن طريق المنابر والإعلام وغيرها. ويرجع هذا إلى الفئة المستهدفة من المعلومة، فللمقرر المدرسي منهجه، وللخطبة ودرس المسجد طريقته، وللمسرح والرواية والقصة فنه، وللنشر الالكتروني أسلوبه.
ومن بين طرق النشر الترميز، كما كتب ابن المقفع كليلة ودمنة، فلا يفهم الحقائق وينزِّلها على أهلها إلا من حضر الوقائع، ويبقى الآخرون فيجولوا في عالم الاستفادة من التجربة وبناء الشخصية، ومنها أيضا التركيز على سرد الإيجابيات والسلبيات معا، دون التمجيد للإيجابيات أو نشر روح السلبية بالسلبيات. ومما يركز عليه في النشر ملاحظة الظروف المواتية مما يؤلف القلوب لا ينفرها ويخدم مصالح الدين والدنيا لا يضيعها، وهذا ما يبعد عنا الفتن والمهالك.
ولنكن عمليين، فلنبادر إلى الخطوة الأولى وهي كتابة الأحداث بتمحيص ومن منطق قيم تلك الأمة وأفكارها، ثم للنشر حديث آخر.                                                                            محمد بن داود تمزغين

هناك تعليق واحد:

  1. slimane سليمان حمو أبوالعلا28 فيفري 2012 في 1:38:00 ص غرينتش+8

    السلام عليك أخي محمد وكل رواد هته المدونة الفتية,

    جزاك الله كل خير على هته السطور الممنهجة على أسلوب الحوار و المناظرة.
    وكأني بكم في حديثكم عن التدوين و كتابة التاريخ تريدون الإشارةإلى كتابة المذكرات الشحصية و التي لا أحسنها كثيرا . و حسب فهمي القاصر، أرى أن للمذكرات الشخصية بالغ الأثر في تتبع تسلسل الأحداث ليس فقط للفرد بل للمجتمع والأمة ككل. فكم من لغز او إشكالية حلت بالرجوع لمذكرات شخصية لبعض الأشخاص الذين دونوا ملاحظات قد تبدو شخصية كثيرا لكنها كانت المفتاح لحل معضلات لما لها من الأثر عند ربط الأحداث بالقصة فتكتمل أحداث بتلك السلسلة المفقودة.
    أما عن نشر ما دون و كتب فأوافقك الرأي، حيث النشر في بصض الأحيان يهدم أكثر مما يبني و لعل لأجل هذا السبب سنت القوانين في الإطلاع على الأرشيف بعد مرور ال50 سنة مراعات لبعض الحساسيات و العنت الذي لربما قد يطال بعض الشخصيات التي لا تزال على قيد الحياة .

    فهي دعوة للكتابة و لكن بمنهجية و بمراعات الحكمة بالنشر .

    سليمان حمو أبوالعلا

    ردحذف